فصل: تفسير الآيات (72- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (72- 73):

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)}.
التفسير:
(الأمانة التي جملها الإنسان.. ما هى؟) بهاتين الآيتين تختم السورة.. وبين بدء السورة وختامها تلاق وتجاوب، بحيث يرى وجه أحدهما في الآخر، كما يرى الشيء وصورته في مرآة مجلوّة.
ففى بدء السورة جاء قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} وفي ختامها جاء قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} ففى تحذير النبيّ من الكافرين والمنافقين، حراسة له ولكل من اتبع سبيله- من هذا الخطر الداهم، وهذا البلاء النازل من موالاة الكافرين والمنافقين أو مهادنتهم.
وبعد بدء السورة بقليل جاء قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وقبل ختام السورة بقليل جاء قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} ففى قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} إشارة إلى أنه كما لا يجتمع في الجوف قلبان، يبطل كل منهما عمل الآخر، كذلك لا يجتمع في القلب شيئان ينقض أحدهما ما يبنيه الآخر... فلا يجتمع في القلب إيمان وكفر، ولا يسكن إليه إيمان يخالطه نفاق.
وفي قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} إشارة إلى أن الأمانة هي مما يحمل القلب، وأنه كما انفرد القلب بالسلطان على الجسم، كذلك تنفرد الأمانة بالسلطان على القلب.
وعلى ضوء هذا نستطيع أن نفهم {الأمانة} على أنها التكاليف الشرعية التي ائتمن اللّه سبحانه وتعالى الإنسان عليها، ودعاه إلى رعايتها وحفظها، وأدائها على وجه مقبول.. فيثاب على أدائها، ويعاقب على خيانتها وعدم الوفاء بها.
والعقل هو مناط التكليف.. حيث لا يقع التكليف على غير قادر مريد، مدرك لما كلّف به.. وبغير العقل لا يكون إدراك، ولا تجتمع إرادة، ولا تتحرك قدرة.
وإذ كان الإنسان هو الكائن الذي أوتى عقلا وإدراكا، من بين الكائنات، فقد كان هو الكائن الذي اختصّ بالتكليف، وبحمل أمانة ما كلّف به.
فالعقل هو المتلقى لتلك الأمانة التي عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها.
وتلقى العقل للأمانة، هو بإدراك ماللّه سبحانه وتعالى من كمالات، وبهذا استحق الإنسان أن يخاطب من اللّه خطاب تكليف، وأن ينظر بعقله فيما كلّف به من أمر أو نهى، وأن يتعرف به ما أحل اللّه وما حرم، وأن يميز به الطيب من الخبيث.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
أي لأجل أن نبتليه جعلناه سميعا بصيرا، أي يسمع بعقل، ويبصر بإدراك، وهذا هو السر في العدول عن سامع ومبصر، إلى صيغة المبالغة {سَمِيعاً بَصِيراً}.
والإنسان- بهذا العقل المدرك المميز للأشياء- سلطان على نفسه، مالك التصرف كيف شاء.. فله أن يؤمن أو يكفر، وله أن يطيع أو يعصى، وله أن يتقدم أو يتأخر.. وليس هذا شأن الكائنات الأخرى، حتى الملائكة- إنها جميعها على وجه واحد، لا تستطيع، بل لا تحاول أصلا، أن تخرج عن هذا الوجه الذي أقامه اللّه عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} (11: فصلت) إن اللّه سبحانه وتعالى يعرض الأمانة هنا على السموات والأرض.. وإنه سبحانه يدعوهما إلى أن يمتثلا أمره.. إما طوعا، وإما كرها.. والطوع، هو التسليم المطلق منها لأمر اللّه.. والكره هو أن يكون لهما الخيار في إمضاء مشيئة اللّه فيهما، وهذا الخيار لا يصير بهما آخر الأمر إلا إلى حيث أراد اللّه فهو خيار في ظاهره، إكراه في باطنه، فهى مكرهة في صورة طائعة.. وقد أبت السماء والأرض قبول الأمانة.. فقالتا: {أَتَيْنا طائِعِينَ} أي مستسلمين، لا إرادة لنا مع إرادة اللّه، ولا اتجاه لنا إلى غير ما أقامنا اللّه عليه.
أما الإنسان، الذي حمل الأمانة، فهو- كما يبدو في ظاهره- عالم، مريد، يعمل بعلمه، وبإرادته.. وهما صفتان من صفات اللّه سبحانه وتعالى، استحق بهما أن يكون خليفة للّه في الأرض.. الأمر الذي لم تنله الملائكة حين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} وقد ردّهم اللّه سبحانه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}.
والعلم الذي يستمده الإنسان من عقله، هو الحارس الأمين على الأمانة التي حملها الإنسان، فبالعلم يعرف الإنسان ربّه، وما له سبحانه من صفات الجلال والكمال.. وبالعلم يدرك التكاليف التي كلفه اللّه بها، فيما أمر ونهى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [27: الأنفال] وننظر في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا} فنجد:
أولا: عرض اللّه سبحانه وتعالى {الأمانة} على السموات والأرض والجبال.
فما معنى العرض هنا.؟
إنه- واللّه أعلم- عرض امتحان لهذه العوالم وما فيها ومن فيها- في مواجهة الإنسان، حتى يظهر عجزها، ويبين فضل الإنسان عليها.. وهذا مثل عرض الأسماء على الملائكة، امتحانا لهم، في مواجهة آدم.. فلما ظهر عجزهم- واللّه يعلم هذا علما أزليّا- اعترفوا لآدم بماله من فضل استوجب سجودهم له!! وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [31- 33: البقرة] وثانيا: إباء السموات والأرض والجبال أن يحملن الأمانة.
فما معنى هذا الإباء؟.
نقول- واللّه أعلم- ليس معناه الرفض، عصيانا وخلافا.. وإنما معناه عدم موافقة طبيعة هذه العوالم لقبول هذا الأمر المعروض عليها.. فهو إباء عجز وقصور، كما عجز الملائكة عن قبول العرض في التعرف على أسماء الأشياء المعروضة عليهم.. وهكذا إذا اجتمع أمران لا توافق بينهما، ثم أريد اجتماعهما وتآلفهما من غير إرادة قاهرة- لم يجتمعا، ولم يأتلفا.. وهذا ما يشير إليه الشاعر في قوله:
أبت الروادف والثّدىّ لقمصها ** مسّ الظهور وأن تمسّ بطونا

فهو إباء محكوم بالطبيعة، لا دخل للإرادة، أو التصنع فيه.. فحسن أن يشبه هذا الواقع منها بأنه إباء وامتناع.
وثالثا: إشفاق السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة.
فهل هذا الأشفاق عن شعور وإحساس، وإدراك لفداحة الأمر وخطره؟
وإذا كان ذلك كذلك، فهناك إذن إدراك! وإذا كان إدراك لم يكن الإباء عن حمل الأمانة، إلا عصيانا وخلافا.. فكيف هذا؟.
الجواب- واللّه أعلم- أن هذا الإشفاق ليس عن إدراك وتقدير، وإنما هو- حركة يقابل بها الكائن- أي كائن من حيوان أو- جماد- ما يدخل عليه من شيء غريب يخرج به عن طبيعته التي أقام اللّه سبحانه وتعالى عليها وجوده.
فالمشفق من الشيء ينفر منه، وينقبض عنه.
وهذا- واللّه أعلم- هو السر في التعبير القرآنى: {وَأَشْفَقْنَ مِنْها} بدلا من {خفن منها} لأن الخائف مضطر إلى أن يتحرك، ويبتعد عن مصدر الخطر الذي يتهدد وجوده، بخلاف المشفق، إذ لا خطر يتهدده.. إنه أشبه بحلم مزعج من أحلام اليقظة!.
وهذه الكائنات لم تكن في عرض الأمانة عليها في مواجهة خطر يتهددها، إذ أنه مجرد عرض، لا إلزام معه.. فهى إما أن تقبل بطبيعتها الأمانة، وتستجيب لها، وإما ألا تقبلها، ولا تتجاوب معها.. ومع هذا فإن مجرد هذا العرض المجرد، قد هزها هزّا عنيفا بالغا، أشبه بما يكون من العين عند دخول جسم غريب إليها.
ورابعا: قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ}.
ما معنى الواو في {وحملها الإنسان}؟ هل هي واو عطف؟ فأين المعطوف عليه؟ أم هي واو الحال؟ فمن صاحب الحال؟ وما المعنى إذن؟
إذا قيل إنها واو العطف- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- كان المعطوف عليه قوله تعالى {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها} وحملها الإنسان.
المعنى على هذا، أن الإنسان كان داخلا في هذا العرض، وأنه بعض موجودات هذه الأكوان التي عرضت عليها الأمانة، وقد عجزت جميعها عن حملها، وأشفقت منها، إلا الإنسان وحده من بينها، فإنه قبل حملها بمشهد من الوجود كله في هذا الامتحان العام.
وإذا قيل إنها واو الحال- وهذا ما نراه- فيكون قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ} جملة حالية، ويكون صاحب الحال الضمير العائد على الأمانة في قوله تعالى: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها}.
ويكون المعنى: أننا {عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها} والحال أن الإنسان قد حملها!! وهذا المعنى يحقق أمورا:
أولها: أن قبول التكليف وحمل الأمانة طبيعة في الإنسان وأنه حال من أحواله على حين أن عدم قبول التكليف وحمل الأمانة، ليس من طبيعة الكائنات الأخرى ولا من شأنها.
وثانيها: أن هذه الطبيعة القابلة للتكليف وحمل الأمانة، قد انفردت من بين المخلوقات بالقدرة على ما تعجز عنه المخلوقات كلها، في السماء وفي الأرض.. وفي هذا تكريم للإنسان، وإعلاء لقدره، ووضعه في ميزان ترجح فيه كفته على سائر المخلوقات مجتمعة.
وثالثها: أن هذا التكريم للإنسان يلقى عليه عبئا ثقيلا، يتطلب منه التفاتا قويا إلى نفسه، باستعمال القوى المدركة المودعة فيه، وحراستها من الآفات التي تعرض لها، حتى يؤدى ما اؤتمن عليه، ويثبت للوجود أنه كما وصفه اللّه:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وأنه هذا الكائن المصطفى من بين الكائنات، كما يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ} فآدم صفوة خلق اللّه جميعا، ونوح صفوة أبناء آدم، وآل إبراهيم وآل عمران صفوة أبناء نوح.
فإذا غفل الإنسان عن هذا المقام العظيم الذي رفعه اللّه إليه، وانطفأت في كيانه تلك الشعلة المقدسة، وهى العقل الذي أودعه اللّه فيه- لم يكن إلا ترابا من تراب هذه الأرض، وكان كما وصفه اللّه: {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ}.
وخامسا: قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا}.
ما معنى هذا الوصف الذي وصف به الإنسان؟ وهل يتفق وصفه بالظلم والجهل، مع هذا الفهم الذي فهمنا الآية الكريمة عليه، وأنها تحدث عن الإنسان هذا الحديث الذي يقيمه على قمة الوجود كله؟.
والجواب على هذا- واللّه أعلم.. أن هذا الوصف ليس واقعا على الإنسان في جنسه كله، وإنما هو واقع على من خان الأمانة من بنى الإنسان، ونزل عن هذا المقام الرفيع الذي له في الكائنات، وبهذا استحق أن يوصف بأنه ظلوم أي عظيم الظلم، لأنه ظلم نفسه، فلم يقدرها قدرها، ولم يحفظ عليها مكانتها.. وإنه ليس أظلم ممن يظلم نفسه، ويبخسها حقها، وهو جهول لأنه لم يعرف قدر نفسه، ولم يحتفظ بهذا السلطان الذي له في هذا العالم.. ومن جهل نفسه فهو أجهل الجاهلين.
فوصف الإنسان بأنه ظلوم جهول، هو في الواقع إشارة إلى تلك الخسارة العظيمة، التي خسرها الإنسان بتضييع الأمانة التي كانت بين يديه، والتي حين تخلّى عنها فقد كلّ شيء، ونزل من القمة إلى القاع.
وهذا أسلوب من أساليب البلاغة في إظهار عظمة الشيء، بذم من فرط فيه وقصر في حفظه، وحراسته.. كما يقال عن إنسان كانت بين يديه فرصة عظيمة مسعدة، فأضاعها بإهماله وتواكله، فلا يجد إلا من يلوم ويقرّع بمثل هذه الكلمات: غبى!! حيوان! جاهل!.
وعلى هذا لا يكون قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا} لا يكون تعقيبا على قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ}.
وإنما هو تعقيب على محذوف، تقديره وحملها الإنسان فلم يحسن حملها، ولم يؤدها على وجهها.. وإنه بهذا التقصير كان ظلوما جهولا.
هذا هو ما اطمأن إليه القلب، واستراحت له النفس، في فهم الآية الكريمة.. وهناك مقولات كثيرة في كتب التفسير في هذا المقام، وهى على كثرتها وتضاربها، لا تخلو من فائدة لمن ينظر فيها.
قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
هذا تعقيب على قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ...} الآية فمقتضى الأمانة التي حملها الإنسان، هو أن يؤديها كما اؤتمن عليها.. فإن هو قصر في أدائها، أو ضيعها جميعا، كان في موضع المساءلة والعقاب.. وإن هو حفظها على قدر ما استطاع ظل محتفظا بمكانه الذي أقامه اللّه فيه، وهو مقام كريم في جنات النعيم.
والذي ينبغى أن يلتفت إليه هنا، هو تقديم الحساب والجزاء لمن كان منه التقصير في أداء الأمانة- تقديمه على التوبة على المؤمنين والمؤمنات.
وذلك أن الأداء للأمانة، هو المطلوب أولا، وهو الشأن الذي إذا فات الإنسان، كان في معرض الخروج من عالم الإنسانية، والنزول عن المكان الرفيع الذي وضع فيه.. وهذا هو عقابه وجزاؤه.. وهو العذاب الأليم، إذ لا عذاب أشد ولا أقسى من أن يخرج الإنسان عن طبيعته، ويعيش في غير بيئته.
كما ينبغى أن يلاحظ أيضا، اختصاص المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات بالعذاب هنا، لأنهم هم الذين ضيعوا الأمانة كلها، ولم يبق في أيديهم شيء منها.. إنهم جميعا على الكفر باللّه.. فالمنافق.. منافق وكافر، والمشرك.
كافر ومشرك.
أما قوله تعالى: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} فهو مقابل لقوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ} وكان مقتضى النظم أن يجيء هكذا مثلا: {ويدخل اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات النعيم}.
والذي جاء عليه النظم القرآنى يحقق أمرين:
أولهما: أن حمل الأمانة، وأداءها كاملة، مما لا يكاد يتحقق على وجهه كاملا، إلا في صفوة مختارة من أنبياء اللّه ورسله.
وإذن فالمطلوب من الناس، حتى في أعلى منازلهم، وأرفع درجاتهم، أن، يقاربوا وأن يسدّدوا، وأن يأتوا من الأمر ما استطاعوا.. فإذا وقع منهم تقصير- وهو واقع حتما- فإن رحمة اللّه ومغفرته من وراء هذا التقصير، إذا هم تابوا، ورجعوا إلى اللّه، واستغفروه: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
وثانيهما: أن الإيمان باللّه، هو ملاك الأمانة.. فمن آمن باللّه، وأقر بوحدانيته، وشهد بقلبه ولسانه: أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، فقد أمن أن يكون في المنافقين أو المشركين، وكان في المؤمنين الذين يتوب اللّه عليهم.. وبالتوبة تمحى السيئات، وتغفر الذنوب، وترجى النجاة من عذاب اللّه. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.